الإنسانية متوجة في يسوع

الإنسانية متوجة في يسوع 

"لسنا نرى الكل بعد مخضعا ... ولكن يسوع نراه" (عب8:2-9) مع (مز8)



قيل عن أحد الفلكيين العظام انه قد تعلم مبادئ علم النجوم وهو نائم على جانب أحد التلال يحرس غنم أبيه.
وربما كان للمزمور الذي اقتبست منه هذه الأقوال مثل هذا المصدر.
ربما قد نظمه الملك الراعي في حداثته وهو ساهر على خراف أبيه يراقب النجوم في حقول بيت لحم. لقد ملأت نفسه عظمة السماء الشرقية، بما يبدو على أديمها من الأفلاك، بفكرين متضادين:
ضعة الأنسان، ورفعة الأنسان. ويخيل إلى أن كل عقل مفكر قابل للتأثر بالحقائق الأدبية ومستجيب لهمسات الطبيعة الخافتة حين يقف وجها لوجه أمام أعمال الله العظمى.
لا شك واصل إلي مثل هذه النتيجة المزدوجة. أن هذه الأفلاك لتظهر على بعد شاسع منا، سابحة من مستقر إلى مستقر، ليلا وراء ليل، وهي في جمال بارد تتفرج على أحزاننا، وآلامنا، وأناتنا، ومواتنا.

ونحن نراها على مثل هذا السكون، والصفاء، والبعد، والخلود! ... ولهذا شعر داود أمامها بحقارة الإنسان.
ولكن لنذكر أن الضخامة ليست هي العظمة، والبقاء ليس هو الحياة، وان المخلوق الذي يعرف الله يسمو عن الخلائق جمعاء...
إن وجدان الإنسان ليخبره بانه يختلف عن هذه النجوم الصامتة ويفضلها.
وهذا الشعور يجب أن يطغى على كل فكر بعظمتها ويغلبه ويقصيه. غير انه في الزمن الذي كتب فيه داود هذه الأقوال لم تستطع الأمم التي أحاطت ببنى إسرائيل، وحتى التي اشتهرت بالحكمة منها، أن تذهب إلى هذا المدى في تفكيرها، وتتحرر من ربقة تأثير عظمة المخلوقات عليها. بل قد تعبدت لها! وما هذا المزمور إلا احتجاجا واعتراضا على تلك العبادة التي كانت أشد العبادات شيوعا وأفواها نفوذا.
ليست هذه الأنوار سادة بل خدما إننا أسمى منها لان لنا أرواحا تربطنا بالله.
وحين تأمل المرنم في الإنسان كما قصد الله له أن يكون، لم يتمالك أن يسكب شعوره منشدا بعظمته التي بدت في افتقاد الله إياه، وفى كونه قادرا على الشركة مع خالقه، وانه موضوع عنايته، وانه وضع قليلا عن الملائكة إذ هم لا يفضلونه إلا بتحررهم من قيود المادة وانه ملك على كل مخلوقات الله على الأرض.
قد تقول لي "هذه كلمات حلوة. ولكن هل هي تتفق والواقع؟ أية إنسانية هذه التي يتكلم عنها؟ أين هو المخلوق الذي على هذا القرب من الله، وبهذا التواضع أمامه، وهو سيد لكل ما حوله؟"
هذا هو السؤال الذي يتناوله كاتب الرسالة إلى العبرانيين. لقد اقتبس من المزمور الذي ورد فيه هذا الكلام ليدلل على أن المسيح – ونحن في المسيح – أرقى من الملائكة...
غير انه يعود فيصرح أن الناس الآن ليسوا على الحالة التي وصفها داود. ومع ذلك فهذا المزمور ليس مبالغة، ولا حلما، ولا مثلا أعلى خياليا.
حقيقة ليس الناس على هذا الوصف ولكن في يسوع – ونحن فيه – ضمان الوصول اليه. وان كانت هذه الصورة مثلا أعلى ولكنها تتحقق في يسوع، ولذا نحن نؤمن إنها تتحقق فينا.
إننا لا نرى كل شيء مخضعا للإنسان. بيد إننا نرى يسوع مكللا بالمجد والكرامة. ولأنه ذاق الموت لأجل كل واحد فارتفاعه إنما هو نبوة وضمان على أن تلك الكلمات الكبيرة القديمة سوف تتم يوما ما في كل عمقها وارتفاعها.
هذا القول يضع أمامنا منظرا مثلثا – انه يطلب منا أن ننظر حولنا، وان كان ذلك يحزننا فهو يدعونا لننظر إلى فوق، وبعد ذلك يوجه أنظارنا للأمام. انه يكشف لنا حقيقة الواقع الذي نشاهده، ثم بالأيمان يرينا حقيقة مجد المسيح غير المنظور، ومن ثم يحول أبصارنا إلى المستقبل الذي نتوقعه لنا ولأخوتنا.

أولا لننظر حولنا

"لسنا نرى الكل بعد مخضعا"
أين هم الناس الذين يصدق عليهم، ولو جزئيا، هذا القول؟
تأمل الناس حولك! هل هؤلاء هم الناس الذين ينشد المرنم عنهم؟ مفتقدون من الرب، ومكللون بالكرامة والمجد، ومسودون على كل أعمال الخالق؟ هل هذا حقيقة أم سخرية؟!...
دعوا وجدانكم يتكلم. انظروا إلى نفوسكم. إن كان هذا المزمور هو فكر الله عن الإنسان. إن كان هو الرسم الذي وضعه الله للبناء بمقتضاه، فما أبعد الفرق بين عملنا ومقصد الله! وما أعمق إحساسي بضعفي ونقصي! على جبيني لا أرى تاجا يتلألأ! ومن حياتي لا تخرج إلا أشعة متقطعة من الطهارة تتخللها كتل من الظلام الحالك! وأما عن سيادتي على الخليقة فلا أكاد أرى لها إلا آثارا سطحية، وعندما أتأمل حقيقة الأمر أرى نفسي مسودا لها.
قد أستطيع أن أروض الحيوانات أو أذبحها. وقد أستطيع أ أسخر قوى الطبيعة في إدارة الاتي، وحمل رسائلي. ولكن هذه كلها ليست هي السيادة على الخليقة. لان ذلك يتضمن استخدام كل شيء لله، ولأجل النمو في الحكمة والقداسة والصلاح.
وإنما سيد كل شيء هو من يخدم الله "كل الأشياء هي لكم. وأما أنتم فللمسيح". إن كان الأمر كذلك أفليس أكثر الناس عبيدا لا أسيادا للأرض والأشياء التي عليها؟ إننا نعلق حياتنا على هذه الأشياء، ونرتعد لمجرد تصور فقدها، ونحاول جهدنا للحصول عليها، ونقول "للذهب أنت عمدتي".
نحن لا نمتلكها بل هي التي تمتلكنا! وهكذا ولو إننا ماديا نخضع الأرض – ونحن نفتخر إلان بإخضاعها ولكن روحيا – أو في الحقيقة – الأرض سادت علينا.
هذا الشعور بالنقص الإنساني تسجله جميع التواريخ البشرية التي بين أيدينا. اذهب إلى أية مكتبة وخذ منها أي سيرة من سير أعظم الرجال والقديسين والحكماء الذين تجهلهم.
هل يوجد بينهم من تنطبق عليه أقوال المرنم؟ ألم يدع واحد من أشرف هؤلاء سيرته التي خطها بقلمه؟ ليس هناك رجال كاملون – وليس هناك رجال على الصورة التي ترسمها أقوال داود.
وان كان أناس من المتحمسين قد كتبوا تاريخ بعض الأشخاص، فصوروهم خالين من العيب والنقص، فأننا نرى صورهم جامدة لا حياة فيها، لأننا لا نعتقد بأخوتهم لنا إلا حين نرى فيهم العيوب والنقصان.
وإذا أخذنا دائرة أوسع ورجعنا إلى التاريخ وهو يكتب عن ماضي البشرية، فاين نجد فيما يسجله من الآمال الضائعة، والحوادث المفجعة، والحروب المروعة – أين نجد في صفحاته المبللة بالداء والدموع، ما يحقق نشيد المرنم، ويرينا رجالا على الطراز الذي يصفه؟
أو لنرجع إلى مشاهداتنا، ولندع تلك المشاهدات تتكلم لنا. لنصور أمام خيالنا الحالة التي عليها أية مملكة نختارها الاجتماعية والأدبية والدينية. لنتأمل في حالة الكثيرين، وما هم عليه من العجز والجهل والشهوة.
أو لنأخذ مزمورنا هذا لنقرأه في أحد السجون، أو الملاجئ، أو حانات الخمور. هل هؤلاء الناس الذين ارتسمت على وجوههم علامات الشر والأجرام، تصدق عليهم كلمات النشيد؟ أو هل هي تصدق على الأقوام المتوحشين الذين يرون من السباع والنمور آلهة، الذين لا يذكرون من أمر دنياهم إلا أكلة أكلوها بالأمس، وتنحصر كل آمالهم في أكلة يأكلونها في الغد؟ انهم يختلفون عن هذه الصورة اختلافا بينا لدرجة إن كثيرين منا يظنون انهم ليسوا أناسا بالمرة.
ماذا إذن؟ أنستسلم لليأس وننظر بابتسامة ساخرة إلى ما يقرره داود؟ إن قصرنا نظرنا إلى الأرض – فنعم... ولكن هناك ما هو أفضل من المناظر التي نشاهدها حولنا. حتى الذين نراهم منحطين، ناقصين وهم أدنى إلى الحيوانات منهم إلي البشر، لهم نصيبهم في هذا المزمور.
حقيقة انهم ذهبوا، وبددوا أموالهم بعيش مسرف، ولكن من خرنوب الخنازير والأسمال البالية يستطيعون أن يأتوا إلى الحالة الأولى، وإلى وليمة بيت الآب. ذلك الهمجي الذي يكاد لا تبين فيه شرارة من التفكير، أو شعاع من الضمير له أن يفتقد من الله، ويتوج بالمجد والكرامة، ويصبح سيد المخلوقات.
قد لا يصدق ذلك علماء الاجتماع، وقد لا نصدقه نحن حين لا نرى كل شيء مخضعا. ولكن مواعيد الله فيها النعم والأمين في المسيح. وحين نرفع أنظارنا اليه تكون لنا ثقة وطيدة باننا نتكلم عن حقيقة فيها إتمام لكل آمالنا عن البشر.

ثانيا لننظر إلى فوق

لننظر إلي يسوع. ولئن كان كاتب الرسالة يرمى في كلامه إلي يسوع في المجد، ولئن كان موضوعه يقتصر على يسوع في السماء مكرما مرتفعا، ولكن قبل أن نتناول ذلك لا يفوتنا أن نقف لحظة عند حياة ربنا الأرضية، لنرى فيها تحقيقا لرؤيا داود عن الإنسانية الحقة. لننظر إلى الوراء قليلا قبل أن ننظر إلى فوق.
يسوع الصاعد إلى العرش، ويسوع التاريخي على الأرض – كلاهما يعلماننا عما يمكن أن يبلغ الأنسان اليه – هذا من وجهة الكرامة التي يتوج بها، وذاك من وجهة الصلاح الذي يجب أنى ستبطنه.
لقد كانت حياة يسوع حياة الإنسانية الصادقة. ومن اختباره الذي عبر عنه بقوله "لم يتركني الآب وحدي لأني في كل حين افعل ما يرضيه".
نرى أية شركة عميقة يمكن أن تكون بين الروح الإنساني – الذي يحيا للطاعة وفى الطاعة – وبين أب الأرواح. الأنسان يسوع المسيح قد افتقد من الله، بل حل الله فيه للأبد، وفى هذا كان لنا مثالا للشراكة كما هو مثال للصلاح.
هذه الحياة يجب أن تكون مثلنا الأعلى. انى أرفض أن أتخذ من حياة أنسان – مهما سمت – غاية أتطلع اليها. كما أرفض أن أتخذ من حياة أنسان – مهما انحطت – صورة لما قضي به على.
يسوع وحده هو النموذج الذي نحتذيه. وهو القوة التي تغيرنا إلى ذلك النموذج. ليست غاية الله العظمى للإنسان أن يكون فاتحا عظيما، أو سياسيا نابغا، أو مفكرا نابها – ولكن الغاية التي ليس وراءها غاية، والتي قصدها الله للإنسان هي أن يكون على مثال الرب يسوع محبا عظيما... إن صور الفضيلة والصلاح التي نشاهدها أحيانا في أخوتنا من البشر إن هي إلا قطع منثورة من الأحجار الكريمة إذا قورنت بقطعة الماس الكبيرة المتعددة الجوانب التي تتشرب وتعكس كل نور الله، إلا وهي حياة يسوع.
ومع ذلك فهو لا يستحى أن يدعونا أخوة. وإذا أردنا أن نتعرف ماهية الأنسان الحقيقية، وما يمكن أن يصير اليه، فلننظر ليس لداخلنا لنرى أخطاءنا، ولا حولنا لنرى تلك القطع المبعثرة من الصلاح، بل إلى المسيح. لننظر ونتشجع. إننا نرى ونسمع عن شرور الناس وغلطاتهم وعيوبهم ما يكفينا. فلنحول نظرنا إلي يسوع ليبعث فينا ميت الرجاء!
أما وقد تأملنا في حياة يسوع الأرضية، فلنعد إلان إلى المعنى الحقيقي الذي تحمله هذه الكلمة وهو النظر إلي يسوع في السماء مكللا بالمجد والكرامة كالمثال الحقيقي للإنسان. وماذا يعلمنا الكتاب عما نرى في ربنا الممجد؟
نرى فيه """إنسانية دائمة""". إن كل قوة الكلمات التي أمامنا إنما تنحصر في الافتراض أن يسوع وهو في مجده وسلطانه يظل كما كان على الأرض أنسانا بكل معنى الكلمة. كثير من المسيحيين يميلون لان ينظروا إلى تجسد يسوع وإنسانيته كأمر وقتي عارض على مثال ما كان الوثنيون قديما يتصورون عن مجيء آلهتهم في صورة الناس إذ يلبسون لباس البشر لحظة ثم يخلعونه.
ولكن التكييف الحقيقي في الكتاب يصور لنا الناسوت متحدا باللاهوت اتحادا لا يفصم قط "اليوم وإلى الأبد".
وهو على ذلك سيظل دائما الأنسان يسوع المسيح.
هذا الحق ليس مجرد تعليم لاهوتي، وليس إدراكه أمرا عقيما، كما انه ليس خلوا من الفائدة العملية. انه المحور الذي عليه تدور أسمى آمالنا. ومن دونه يكون ذلك العمل العظيم الذي يقوم به على الدوام – من إعانة المجربين، والترفق بالجهال والضالين – مستحيلا.
بدون تلك الإنسانية الدائمة يكون عمله العظيم فد إعداد مكان لنا وتجهيز السماء لسكنى الناس – لان ربها هو الأنسان – متعذرا. بدونه لا يكون مجده نبوة عن سيادة الأنسان، ولا دخوله إلى السماء يكون من أجلنا.
فلنتأمل جليا في حق إنسانية يسوع الدائمة وعندئذ تكون رؤية يسوع مكللا بالمجد والكرامة جواب الانتصار لكل الأسئلة التي يضعها اليأس على فم كل من يدرك حقائق الحياة.
كذلك نرى في يسوع ممجدا في السماء، """إنسانية جسدية"""
هذا الأمر يمس مواضع متعددة مظلمة بعضها لا يتكلم عنه الكتاب إلا قليلا،وبعضها يصمت عنه صمتا تاما. ولكن قيامة يسوع المسيح وصعوده فيهما أسباب قوية تحملنا على الإيمان بأن الأنسان في حالته الكاملة له جسد كما أن له روح. وهذا الإيمان هو السبيل لإبراز آمالنا عن الحياة المقبلة في صورة واضحة حقيقية من دون الإيمان بإنسانية جسدية يكون العالم غير المنظور غامضا، مبهما، خارجا عن نطاق مداركنا، وفاقدا كل قوة للتأثير علينا إزاء حقائق الزمان الحاضر.
ولكنا نرى يسوع صاعدا إلى السماء في جسد إنساني.

ولذا يمكننا أن نستنتج انه موجود الآن في مكان معين. وبالتالي فالسماء مكان كما أنها حالة.

ثم نرى في يسوع إنسانية ممجدة.
مرة حين كان على الأرض أشرق المجد المخبوء فيه من خلال الجسد الذي كان يحجبه، وسطع حتى من أطراف ثيابه: "تغيرت هيئته قدامهم".
ليس كما من نور منعكس عليه من فوق، بل من مجد ينضح من داخله. ومن الدروس العديدة التي تعلمنا إياها ساعة التجلي الرهيبة إمكانية ظهور المجد الذي كان مخفيا في جسد المسيح – تلك الإمكانية التي أصبحت حقيقية بعد موته.
وحين صعد إلى العلاء لبس جسد المجد. لقد كان الجسد له – ولنا – مرادفا للضعف والهوان. ولكن الجسد لنا – وليس له – معناه الفساد والموت. الجسد الطبيعي – له كما لنا – يجب أن يتغير إلى جسد روحي يوافق حالة ملكوت الله التي لا يدخلها دم ولا لحم وبواسطته سوف يتغير جسد تواضعنا إلى صورة جسد مجده. أننا نرى يسوع والإنسانية فيه ممجدة مكملة.

وأخيرا نرى في يسوع إنسانية مالكة.
لقد كان المرنم يفكر أن الأنسان يسود على كل أعمال الله متوجا بالمجد والكرامة. وفى يسوع يتجسم فكر المرنم بطريقة تفوق كثيرا ما كان يتصوره. هناك إنسان مرتفع إلى مركز السيادة الكاملة المطلقة. ليست سيادة يسوع مجازا أو تشبيها. ولكنها حقيقية أكيدة.
انه يدير تاريخ العالم ويقبض على زمام شؤونه. هو رئيس ملوك الأرض. وهو يستخدم قوى الطبيعة. هو رب العالم الغير المنظور وله مفاتيح الموت والهاوية. "الرياسة على كتفه" وعليه يتعلق كل مجد الآب.
لقد خدمته الملائكة في تواضعه وشددته في آلامه، وحرسته في قبره، وراقبته في صعوده، والملائكة الآن يخدمونه ويسجدون له. انه يمسك الكواكب في يمينه، وجميع الخلائق تحيط بعرشه، صوته قانون. وإرادته قوة. يقول لهذا "اذهب" فيذهب. يأمر الرياح والبحار، الأمراض والشياطين، فتطيعه. يقول فيكون. يأمر هذا أن "افعل" فيفعل. على رأسه تيجان كثيرة.
أنت ملك المجد يا يسوع! وإذ ننظر اليك نرى فيك الإنسان مكللا بالمجد والكرامة.

ثالثا لننظر إلى الأمام

ولو أن هذه الرؤيا كما يخيل إلينا قد تأخرت مركبتها، ولو أن الأجيال الكثيرة قد تعاقبت عليها فلم تدننا من إتمامها إلا بهذا البطء، ولو أن الوعد الجميل الذى من أجله ترنمت كواكب الصبح وهتف أبناء الله معا يظهر كأنه تلاشى واضمحل، ولو أن رجاء المرنم يظل غير متحقق، ولو أن نغمات الأغنية التي أنشدتها الملائكة لرعاة بيت لحم معلنة السلام على الأرض قد ماتت وأعقبتها صيحة الحروب وسفك الدماء التي ما تزال ترن في آذاننا، بالرغم من ذلك كله فإننا بالقوة التي ننالها من النظر إلى يسوع الممجد ننتظر مستقبلا سوف يكون فيه الناس كما قصد الله لهم على صورة المخلص.
لقد تحجب السحب عن أنظارنا كل ذلك المشهد، ولكن من خلال هذه السحب عن أنظارنا كل ذلك المشهد، ولكن من خلال هذه السحب تشع أنوار المدينة التي لها الأساسات.
وإذ ننظر إلى الأمام نرى الناس يشاركون يسوع في مجده ويحيطون بعرشه.
إن يسوع هو النموذج الحقيقي للطبيعة البشرية. يسوع هو نبوة سيادة الإنسان وضمانتها. ومن يسوع تأتى القوة التي تتم بها النبوة وتظهر صورتها في كل من يحبونه.
من يلتصق به يقبل في نفسه روح الحياة في المسيح الذي ينمو ويتكامل إلى إن ينتهي بالتشابه التام بين النفس المؤمنة والمخلص الذي به تحيا. ما كان أقل تعزيتنا لو كنا نشير إلى المسيح ونقول: "هذا ما وصل اليه الإنسان، وما يستطيع إن يصل اليه" إن لم نستطع أن نردف ذلك بقولنا "إن بين المسيح وبين مريديه اتحادا حقيقيا حيا من شأنه أن يغير أخلاقهم، ويبقى طبائعهم، ويكسبهم جمالا أبديا".
إن يسوع لنا هو أكثر من نموذج، فهو قوة. أكثر من مثال، فهو مصدر. أكثر من قدوة. فهو فاد. لقد أخذ صورة الجسد الخاطئ لنتحول نحن إلى صورة جسد مجده لقد "جعل خطية لنصير نحن بر الله فيه".
حقيقة ارتفاعه لو أومن بها لا تهب أساسا للرجاء إلا بفرض واحد – هو أننا لكي نرى الإنسان مرتفعا ممجدا في المسيح فمجد المسيح يجب أن يكون مرتبطا بذوقه الموت لأجل كل إنسان.
حين اعلم بأنه مات من أجلى ومن أجل كل إخوتي الجالسين في الظلمة، واسمع أناتهم إذ يسرى السم في عروقهم، عند ذلك أحس انه كما تشبه بنا بالموت هكذا سوف نتشبه به في قيامته.
أيها الأخوة! إن الصليب، والصليب وحده، هو الذي يؤكد شركتنا في الإكليل. إن لم يكن ليسوع القوة العجيبة على التخلص من الخطية، والبعث لحياة جديدة، فلن يكون هناك شيء أبعد عن آمال الإنسان في المستقبل من قصة طهارة المسيح وسيادته.
ما قيمة هذه لنفوس تتلوى في الشر؟ أي رجاء لنفس واحدة أو للعالم بأسره في معرفته انه كان بارا أو في الإيمان بأنه صعد إلى العلاء؟ ماذا يهمنا من ذلك؟ إن العيون التي كلت من النظر لن يضئ عليها رجاء إنجيل كهذا. ولكن قل لهذه العيون – مهما كانت كليلة – أن تشخص إلى ذاك الذي ارتفع كي لا يهلك كل من يؤمن به، فهذه الرؤيا تخلع على منظر يسوع على العرش معنى مباركا، ليس انتصارا عقيما لنفسه وحده، بل غلبته لأجلنا، غلبتنا فيه.
إن كنا نقول "الله الذي هو غنى في الرحمة من أجل محبته التي أحبنا بها ونحن أموات بالخطايا أحيانا مع المسيح" فإننا نضيف إلى ذلك "وأقامنا معه وأجلسنا معه في السماوات في المسيح يسوع".
وأي رجاء عجيب ينشأ في نفوسنا إذ نؤمن بأن ما نراه في يسوع نستطيع أن نتنبأ به لأخوته! سوف نكون مثله في كل الأمور التي أشرنا اليها! نحن أيضا سوف تكون لنا إنسانية جسدية، متغيرة، ممجدة.
نحن أيضا سوف يكون لنا اتحاد كامل وشركة عميقة مع الآب. نحن أيضا سوف تكون لنا كل الامتيازات المتضمنة في الوعد الأخير الذي ليس وراءه تصور "من يغلب فسأعطيه أن يجلس معي في عرشي" عندئذ تتحقق تلك الكلمة القديمة فوق كل أحلامنا "أخضعت كل شيء تحت قدميه" ومن يستطيع أن يخبر عما ينطوي تحت هذه الكلمات من قوى جديدة، ومدارك جديدة، وعلاقات جديدة بالعوالم الخارجية، ونفوذ جديد نسلطه على كل الأشياء، واستعداد جديد لقبول أحلى الرسائل وأعمقها من كل شيء عن الله؟ إننا الآن لا نستطيع أن نرى ذلك جليا.
ومثلنا مثل رجل يسير ليلا في حديقة غناء والأزهار تكتنفه من كل جانب وهذه الأزهار مطبقة أوراقها تكتنفه من كل جانب وهذه الأزهار مطبقة أوراقها وكأنها في حالة النوم، غير انه لا يعدم أن يتبين هنا أو هناك زهرة بيضاء، ويحس بأريجها يفوح عليه من وسط الظلام.
إننا لا نفهم – إلا قليلا – كل ما يحويه وعد الإنسانية المتملكة. نحن نعلم أن "الأبرار يسودون". نحن نعلم أن الرب يسوع سوف يعطى لعبيده سلطانا على عشر مدن. نحن نعلم إننا سوف "نكون ملوكا وكهنة لله". هذه الحقائق نعرفها ولكن لا نستطيع أن ندرك كل معناها. "لم يظهر بعد ماذا سنكون" ولكن كفى أننا سوف نملك معه وان في ملكوت السماء، السيادة معناها الخدمة، والأصغر هو الأعظم.
نحن أيضا سوف نرتفع على كل الخلائق – فوق كل رياسة وقوة، نظير المسيح الذي هو رب الملائكة. القرب إلى الله، ومعرفة قلبه، والتشبه بالمسيح – هذه هي الأمور التي تتفاضل فيها الكائنات الروحية. وكلمة الله في أكثر من مرة تطلب منا ان نفرض بأن الناس المفديين من خطاياهم بدم المسيح، والذين اختبروا البعد عن حكمة الله لدى الرؤساء والسلاطين في السماويات والذين سوف يكونون لقربهم إلى عرش الله قادة التسبيح لجميع الخلائق التي تشيد بمديحه.
أولئك الذين يعرفون الخطية، ويذكرون الحزن، والذين عرفوا الله عن طريق صليب المسيح، واختبروا نعمته المخلصة المقدسة، لابد أن تكون لهم به معرفة أعمق وارتباطا أشد من ذلك الابن الأكبر الذي لم يكسر وصاياه قط.
إن الابن الأصغر للملك لهو أقرب اليه من أكبر الخدام الذين يقفون أمام حضرته. أخونا هو رب الهيكل. ومن حقنا أن نتمتع بسيادته. وان كنا لا نستطيع أن نتكلم إلا بوضوح قليل عن هذه الأمور غير انه يكفي العبد أن يكون كسيده.
هي الثقة المؤكدة والغير الواضحة يجب أن تشبع عقولنا دون أن ندخل في تفاصيلها، وتهدى قلوبنا وان كنا كثيرا ما نجرب بطرحها. أعداء كثيرون يحاولون أن يبذروا فينا مختلف الشكوك كما كانت تجربة الشيطان الأولى مفرغة في هذا السؤال "هل حقا تموتان؟".
هكذا الشيطان يجبرنا الآن بسؤال على عكس ذلك "هل حقا سوف تحيون؟" كثيرا ما يبدو لنا أن مثل هذا الرجاء بالحياة الأبدية لخلائق نظيرنا غير قابل للتصديق. وكثيرا ما يبدو لنا أن انطباق هذا الوعد على الناس كما نشاهدهم أمر هو في حكم المستحيل.

يا إخوتي:
وحين نحس في قرارة نفوسنا بالنقص الشخصي وبالخطية المتغلغلة في أعماقنا فليس هناك فكر يمنحنا السلام إلا أن المسيح مات لأجلنا وهو حي لكي يأتي بنا للمجد، هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم. هوذا يسوع داخلا إلى ما وراء الحجاب لأجلنا.
فلنحول أنظارنا عن نقصنا ونقص الناس حولنا إلى ذلك البار، الحكيم، القوى. لا تر في إنسان مثالا لحياتك إلا في يسوع وحده، عندئذ يزكو فيك الرجاء، وعندئذ تستطيع أن تخترق السماء إلى ذاك الذي هو أعلى من السماوات.
وحين نفارق هذا العالم للمجد ننظر من عرش المسيح إلى الشمس والقمر والنجوم التي أضاءت قبلا فوق رؤوسنا وهى حينئذ تحت موطئ أقدامنا فنصرخ بشكر عميق في نفوسنا إزاء نعمة الله غير المحدودة من نحونا قائلين "من هو الإنسان حتى تذكره أو ابن آدم حتى تفتقده؟".

0/Post a Comment/Comments