العمل في الخفاء

العمل في الخفاء


إننا فى هذه الايام تجاهلنا فكرة العمل فى الخفاء وكثيرا ما نقع فى خطأ كبير، الا وهو مدح اعمالنا وتصرفاتنا أمام الآخرين، 

العمل في الخفاء
العمل في الخفاء


يمكن مشاهدة مقدمة الموضوع من هنا  ملكوت السموات وقوانينه

"احترزوا من ان تصنعوا صدقتكم قدام الناس لكي ينظروكم وإلا فليس لكم اجر عند ابيكم الذي في السماوات. فمتى صنعت صدقة فلا تصوت قدامك بالبوق كما يفعل المراؤون في المجامع وفي الازقة لكي يمجدوا من الناس. الحق اقول لكم: إنهم قد استوفوا اجرهم! واما انت فمتى صنعت صدقة فلا تعرف شمالك ما تفعل يمينك لكي تكون صدقتك في الخفاء. فابوك الذي يرى في الخفاء هو يجازيك علانية. «ومتى صليت فلا تكن كالمرائين فانهم يحبون ان يصلوا قائمين في المجامع وفي زوايا الشوارع لكي يظهروا للناس. الحق اقول لكم: انهم قد استوفوا اجرهم! واما انت فمتى صليت فادخل الى مخدعك واغلق بابك وصل إلى أبيك الذي في الخفاء. فابوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية. وحينما تصلون لا تكرروا الكلام باطلا كالامم فانهم يظنون انه بكثرة كلامهم يستجاب لهم. فلا تتشبهوا بهم. لان اباكم يعلم ما تحتاجون اليه قبل ان تسألوه. «فصلوا أنتم هكذا: ابانا الذي في السماوات ليتقدس اسمك. ليأت ملكوتك. لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض. خبزنا كفافنا أعطنا اليوم. واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن ايضا للمذنبين الينا. ولا تدخلنا في تجربة لكن نجنا من الشرير. لان لك الملك والقوة والمجد الى الابد. امين. فانه ان غفرتم للناس زلاتهم يغفر لكم ايضا ابوكم السماوي. وان لم تغفروا للناس زلاتهم لا يغفر لكم ابوكم ايضا زلاتكم. «ومتى صمتم فلا تكونوا عابسين كالمرائين فانهم يغيرون وجوههم لكي يظهروا للناس صائمين. الحق اقول لكم: إنهم قد استوفوا اجرهم. واما انت فمتى صمت فادهن راسك واغسل وجهك لكي لا تظهر للناس صائما بل لابيك الذي في الخفاء. فابوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية." (مت6: 1-18)


نرى من الآيات التي اوردناها أن الرب وعدنا ببركة عظمى فى هذه الحياة الدنيا، كما فى الحياة الاخرى، اذا نحن كنا ابرارا وحفظنا قوانين الملكوت. وكم يخاف الرب علينا لئلا نخسر المجازاة، ولذلك نراه فى هذه القانون يصرح لنا قائلا "احترزوا من ان تصنعوا صدقتكم (بركم) قدام الناس لكى ينظروكم وإلا فليس لكم اجر عند ابيكم الذي في السموات" (مت1:6)، ثم يستطرد الحديث بعد ذلك مستعرضا ثلاثة مظاهر البر هي الصدقة، والصوم والصلاة، ولنا على كل منها مكافأة إذا صنعناها فى الخفاء، وأما اذا صنعناها بغية ان يراها الناس فان مكافأتنا تضيع علينا. فلنتأملها الآن واحدة واحدة.

1- الصدقة

فما هو المقصود بكلمة "صدقة"؟

الصدقة
الصدقة

المقصود بها أن نعطى مما ملكت أيدينا لمن هم فى احتياج، ولذلك فاننا اذا تصدقنا فقد أطعنا الشطر الثاني من القانون الرابع الذي سلف ذكره والذي يقول "من سألك فأعطه ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده". يمكن الرجوع للقانون الرابع من هنا  من سألك فأعطه

ولا تنس أننا عندما درسنا ذلك القانون انتهينا الى القول بأننا يجب علينا أن نمد يد المساعدة لمن يطلب منا صدقة، طالما كان ذلك فى مقدورنا، وهذه هي الحقيقة.

إن الكلمة اليونانية المستعملة فى هذه المناسبة تعني أيضا "الإحسان"، أو "أعمال الرحمة"، أو "الشفقة"، وهي أيضا الكلمة التى قيلت عن طابيثا "هذه كانت ممتلئة أعمالا صالحة واحسانات كانت تعملها" (اع36:9).

ولربما كان غير مستطاع لنا جميعا أن نشترك في احتياجات الآخرين الزمنية. ولكننا نستطيع أن نصنع معهم معروفا أو جميلا، وان نعطف عليهم ونترفق بهم، قائلين مع بطرس ويوحنا "ليس لى فضة ولا ذهب ولكن الذي لي فاياه اعطيك".

على أن كل ذلك يجب ان يعمل فى الخفاء جهد الطاقة، حتى لا يظهر للناس، وإلا فإننا نخسر مكافأتنا، وأظن ان فحوى ما يعلمنا إياه هذا القانون ان نعمل اكبر قسط من الإحسان بأقل ما يمكن من استرعاء النظر والاعلان.

وما أبعد الفرق الشاسع بين ذلك وبين روح العصر الحاضر وأساليبه، فكثيرا ما نود أن يحمده الناس وأن تعرف الكنيسة ما نعمله، وهكذا الحال مع كثيري من رجال الأعمال وغيرهم ممن يساهمون فى المشروعات الخيرية، فإنهم لا يقدمون على ذلك ألا تظهر أسماؤهم فى قائمة التبرعات، وغرضهم أن يعلم الناس مقدار سخاؤهم، ويقيدون تبرعاتهم على حساب النشر والاعلان... "الحق أقول لكم إنهم قد استوفوا أجرهم" الذين جروا وراءه، ولكنهم خسروا الأجر العظيم السامى، الذى وعد الله به اولئك الذين يصنعون صدقتهم فى الخفاء.

2- الصلاة

الصلاة
الصلاة


وما يقال عن الصدقة يقال أيضا عن الصلاة - قال الرب "ومتى صليت فلا تكن كالمرائين فانهم يحبون ان يصلوا قائمين في المجامع وفي زوايا الشوارع لكي يظهروا للناس. الحق اقول لكم: انهم قد استوفوا اجرهم! واما انت فمتى صليت فادخل الى مخدعك واغلق بابك وصل إلى أبيك الذي في الخفاء. فابوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية. وحينما تصلون لا تكرروا الكلام باطلا كالامم فانهم يظنون انه بكثرة كلامهم يستجاب لهم. فلا تتشبهوا بهم. لان اباكم يعلم ما تحتاجون اليه قبل ان تسألوه. فصلوا أنتم هكذا: ابانا الذي في السماوات ليتقدس اسمك. ليأت ملكوتك. لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض. خبزنا كفافنا اعطنا اليوم. واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن ايضا للمذنبين الينا. ولا تدخلنا في تجربة لكن نجنا من الشرير. لان لك الملك والقوة والمجد الى الابد. امين. فانه ان غفرتم للناس زلاتهم يغفر لكم ايضا ابوكم السماوي. وان لم تغفروا للناس زلاتهم لا يغفر لكم ابوكم ايضا زلاتكم."(مت6: 5-15).

ولقد وضع الرب في هذه الفقرات القواعد التى ترشدنا في حياة الشركة والصلاة، فعلمنا قبل كل شئ أن تكون صلاتنا في الخفاء حتى لا يرانا الناس، فيجب أن ندخل إلى مخادعنا وأن نغلق أبوابنا حتى لا نكون على اتصال بالعالم الخارجي، ثم نختلى بالله، ولذلك فإن أبانا الذى يرى فى الخفاء يجازينا جهارا ويجب كذلك أن تكون صلاتنا صلاة الإيمان، فلا نكرر الكلام جزافا مصلين مرارا وتكرارا لأجل غرض واحد، بل لقد قال الرب "كل ما تطلبونه حينما تصلون فآمنوا أن تنالوه فيكون لكم" (مر24:11). فعندما نرفع تضرعاتنا ليكن لنا ايمان انها قد أجيبت، وهكذا ننال ما طلبناه بالإيمان، واذ ذاك نستطيع أن نحول صلاتنا الى شكر وحمد.

كما أنه يجب أن يكون لصلاتنا الطابع الذي امتازت به الصلاة النموذجية التى علمنا الرب إياها، والتي نلقبها غالبا بالصلاة الربانية، ولكننا لو أنصفنا لدعوناها صلاة التلاميذ. ولقد علمنا الرب بها أن يكون موقفنا أمام الله كما يأتي:

  1. كبنين: "ابانا الذى فى السموات"
  2. ككهنة: "ليتقدس اسمك"
  3. كخدام: "لتكن مشيئتك كما فى السماء كذلك على الأرض"
  4. كمتوسلين: "خبزنا كفافنا أعطنا اليوم"
  5. كخطاة: "واغفر لنا ذنوبنا"

وأخيرا يجب أن تكون صلاتنا مقرونة بروح الصفح والغفران، لانه "إن غفرتم للناس زلاتهم يغفر لكم أبوكم أيضا زلاتكم" (من6: 14-15).

لست فى حاجة إلى أن أقول إن الغفران المذكور لا يختص بالخلاص بل هو متعلق بشراكتنا مع الله كأبناء، فلقد أعطيت هذه الصلاة للتلاميذ الذين تأكدوا من خلاصهم خلاصا كاملا بالنعمة. أما خطايانا، ماضية كانت أم حاضرة أم مستقبلية، فقد فصل فيها المسيح على الصليب بموته.

وقد تسألنى لماذا اتكلم عن الخطايا المستقبلية، وجوابا على ذلك أقول إن المسيح عندما مات على الصليب كانت كل خطايانا وقتذاك فى حكم المستقبل. ولا يغربن عن البال اننا مفديون بالدم الكريم ومتمتعون بغفران خطايانا، إلا أنه مازال يصدر منا بعض "الزلات" والخطايا التى تقف حائلا بيننا وبين الله، وتعترض شركتنا معه وتعطلها ان كنا لا نتوب عنها ونعترف بها إليه طالبين منه الصفح لنا بكل جد وخطورة، وجلاء ووضوح، اننا ان لم نغفر للآخرين زلاتهم فلن يغفر لنا أبونا السماوى زلاتنا، ولن يعيد إلينا شركتنا معه، ولا ننس اننا طالما كنا بعيدين عنه فصلاتنا تصبح بلا قوة.

3- الصوم

الصوم
الصوم


"ومتى صمتم فلا تكونوا عابسين كالمرائين فانهم يغيرون وجوههم لكي يظهروا للناس صائمين. الحق اقول لكم: إنهم قد استوفوا اجرهم. واما انت فمتى صمت فادهن راسك واغسل وجهك لكي لا تظهر للناس صائما بل لابيك الذي في الخفاء. فابوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية." (مت6: 16-18)

ليس المقصود بالصوم ضرورة الامتناع عن الطعام، مع ان هذا هو المقصود به فى كثير من الأحيان، إنما المقصود به أن نمتنع عما هو حق جائز لنا حتى نتفرغ للصلاة.

الصوم هو انعزالنا عن كل مشاغل الأرض، والصلاة هى اتصالنا بالله وشركتنا معه، لان أمور هذه الحياة إذا ما تغلبت علينا فلن نستطيع أن نتعمق مع الله فى الصلاة.

ثم إن الصوم هو أن نتجرد عن كماليات الحياة وابهتها، حتى تكون فضالتنا من حطام هذه الدنيا نافعة لسد أعواز الآخرين. ولكن لا ننس أن كل ذلك يجب أن يعمل تحت ستار الخفاء، فإذا ما صمنا بغية استدعاء أنظار الناس أضحت مكافأتنا على ذلك اعجابهم بما نعمله وتقديرهم له، وضاعت علينا تلك المكافأة الجليلة، المنقطعة النظير، التي يمنحنا الله إياها. 

ولذلك يحذرنا الرب قائلا "احترزوا".

ترى هل عدنا الى ديانة الموعظة على الجبل، فطلبنا ان نعمل ما في وسعنا من الخير والمعروف دون ان نبغى تقديرا واعجابا، راغبين في أن ينظرنا الله الذى يرى فى الخفاء.

صحيح أن المسيحيين يشعرون شعورا قويا أن من الخطأ الشنيع أن يهتم المرء كثيرا بالمدح الذي يردده الناس عالميون جسديون على ألسنتهم، ثم يقرون انهم يجب ان يموتوا عن العالم من هذه الناحية، ولكنهم على الرغم من ذلك يسعون وراء الشهرة الدينية فى داخل الكنيسة، ويبذلون قصارى جهدهم للحصول على رضاء الله الاتقياء و استحسانهم، من غير ان يروا لوما عليهم فى ذلك، يحرصون على إظهار مبلغ نجاحهم ومقدار خدمتهم، امام اخوتهم، يذيعون تعب محبتهم، وما وصلوا إليه من نجاح روحى، ويشيرون الى انتصارهم على الجسد، وعذرهم فى ذلك أنهم لا يبتغون سوى انهاض الآخرين وتشجيعهم.

فلو كان عملهم هذا صوابا لا يمكننا ان ندافع عن صلاة الفريسي ونبررها على هذا النحو، فلماذا نستكثر عليه اشهار صومه، وإذاعة عشوره، واعلان صدقته، وامتناعه عن الظلم، و استهجانه الزنا، الى غير ذلك.

اخشى أيها الحبيب اننا فى هذه الأيام، كثيرا ما نقع فى خطر داهم، الا وهو مدح اعمالنا وتصرفاتنا أمام الآخرين، بل أخشى كذلك أن كثيرين منا يفرض عليهم فرضا أن يحيطوا الآخرين علما بكل ما استطاعوا أن يعملوه فى سبيل خدمة الله. ولكن الرب يرينا هدفا افضل يجب ان نسعى اليه، ذلك هو إرضاء السيد والاحتراس من ذكر جهودنا فى خدمة المسيح أمام اخوتنا.

"فلو كان يسوع المسيح يرغب في أن يعلن ما يريد انت أن تعلنه لفعل ذلك بدون محاولة منك، ولكنه يشتاق بصفة خاصة الي أن تكون للمسيحيين عين واحدة ينظرون بها إليه وحده. وهكذا ينمو ايماننا، وطوبى لمن يراه الآب فى الخفاء فيجازيه جهارا.

2/Post a Comment/Comments

  1. ولكنه يشتاق بصفة خاصة الي أن تكون للمسيحيين عين واحدة ينظرون بها إليه وحده.
    مقولة رائعة وموضوع مميز

    ردحذف

إرسال تعليق